الفرق بين الاستقراء و الاستنباط


                                              الفرق بين الاستقراء و الاستنباط
بسم الله الرحمن الرحيم
الفرق بين الاستقراء و الاستنباط
إن ما يبتنى عليه موضوع الاستقراء هو الانتقال من الخاص إلى العام و من الجزئي إلى الكلي و أما الاستنباط فقائم على الانتقال من العام إلى الخاص و من الكلي إلى الجزئي.
و الاستقراء قد يكون معرى عن التجربة إذا كان في دور الاستنتاج العلمي و هو المبنى على الملاحظة و قد يكون مرتديا لباس التجربة كما لو كان في صورة الاستنتاج و ذلك في صورة عدم اعتماده على الملاحظة فهو خاضع للتجربة و يرتكز على الحواس.
فالاستقراء من حيث تتبع الموارد الجزئية للوصول إلى المعاني الكلية و إن كان في إطاره العام ذلك إلا أن الاستقراء إذا كان محددا في قالب الحس يكون منوطا للعامل التجريبي و لم يكن من مصاديق التجريد و لكن الجزم بأخر نقطة لم يكن من العامل التجريبي و إن حصل بمقدمات تجريبية.
و على الجملة إن التجربة لاتسطيع أن تنتج برهانا يقينا على عكس التجريد لارتكازه على المعاني العامة و إن كانت التجربة قائمة على الدليل الاستقرائي حيث أن المعرفة على الأمر الكلي تتولد من منطلق الجزء و لكن تصوير القاعدة العامة يقع بعامل التجريد و إن كان عن طريق الجزء كما أن الجزم بأخر جزء يكون من دائرة التجريد و لايمت إلى التجربة. هذا مع اعتماد الاستقراء على ارتباط الحادثة بالسبب و إن الحالات المتشابهة في الطبيعة تؤدي إلى نتائج متماثلة و إن الاتفاقيات لاتكون دائمة.
و أما الاستنباط فهو الحصول على النتيجة من خلال ضم الكلي إلى الجزئي و يكون في حال الإرجاع إلى الأمر المستنبط يتم دور الاستنباط الّذي هو الانتزاع من خلال تلك المعاني الإضافية و يصطلح على الأمر الانتزاعي بالتصور الثانوي دون الأولي و مقتضى طبيعة الانتزاع ما كان خارج المحمول الّذي ليس ما بحذائه وجود خارجي سواء كان الانتزاع من واقع الذات كالعلية و الإمكان و الوجوب و الامتناع أم من مقام المقولات التسع كالفوقية و هذا بخلاف الأمر الاعتباري فان له تقرر و لكن بعين اعتباره كما في الملكية و الزوجية و بالجملة إن التصور الثانوي يستخرج من دائرة التصور الأولى على نحو الاستنباط و الجهة الانتزاعية مع قيد ضم الصغرى إلى الكبرى دون مجرد الانتزاع.
و على ضوء ما حررناه ينقسم الانتزاع إلى ما يلي:
1 ـ الانتزاع عن مقام الذات: كانتزاع الإمكان عن ذات الممكن.
2 ـ الانتزاع عن مقام العرض: كانتزاع البياض من الثلج أو القطن و انتزاع السواد من الحبشي و البياض من الرومي.
3 ـ الانتزاع من أمر مبهم الحاصل من المصاديق المترددة.
و عليه يكون الاستنباط قائما على الأشكال الأربعة من القياس المنطقي و هذا ما نوضحه في البحث عن ضوابط الاجتهاد عند العرض التطبيقي على ذلك.

الاستنباط العام
مما يناسب البحث عنه التعرض إلى الطبيعة الكلية للاستنباط العام في جميع العلوم و هذا ما تحدثنا عنه في مقدمة كتابنا (دراسات أصولية) حيث أشرنا إلى أن الدور الاستنتاجي العام الّذي ينطلق من أبعاد معيارية على كافة المستويات العلمية و انه لابد من استنتاج عام تحكمه القواعد و نعني بالعموم ما انطوى تحت الحقيقة الاستنباطية مثل الاستنباط التقارني و الاستيحائي أو الاستنباط القرعي أو ما يطلق عليه بالاستنباط الصقعي أو الاستنباط الإرجاعي أو الاستنباط الوضعي كما انه ينطوي تحت الاستنباط المعنوي كما في الأمور الانتزاعية المتولدة من منشأ انتزاعها كالأمور العنوانية و أمثالها بغض النظر عن مصادرها سواء كانت ضوابط عقلية من المستقلات أم الملازمات العقلية أم من نوع الأعراف العامة كما انه بالنسبة إلى ما كتبناه في الأصول أيضا تحكمه معايير اصولية مستمدة من الجانب الشرعي و إن كان هناك جهة مشتركة بين الاستنباط العام و الاستنباط الخاص فلنأتي أولا إلى الاستنباط العام الخاضع تحت مظلة نظرية الإرجاع الّذي نشير إليها على نحو الإجمال و بعد ذلك ندخل في أطار الاستنباط الخاص الّذي يخص البحث عن الدراسات الأصولية.
و بما أن العلوم لها وجود واقعي منطوية في قرار النفس كذلك لها جهة الصلة في الجانب المعياري العام كالالتزام بوحدة العلية و السببية و الأخذ بالمستقلات العقلية و مستلزماتها و مراعاة قواعد التناقض و التضاد و المثلية و الخلف و الدور و التسلسل و ملاحظة السنخية و الوحدة و الكثرة و مراعاة القواعد في الكم و الكيف و عدم مداخلتهما و ذلك بادخال الكم في الكيف كما عليه هيجل و السير نحو المقولات و الالتزام بركائز العلوم كالمقولات الخارجية و الاعتبار و الواقع الماهوي و إن ما يجري عليه عناصر العلوم من التعريف و الموضوع و الغاية مشروطة بكل هذه الأمور على نحو الأصول الاستنتاجية المسلمة عند الجميع لكي تعكس الجهة العامة للأستنتاج الكلي العام و هذا يستدعي أن نقدم النقاط الآتية:
أ ـ العلم فطري و صناعي:
بمقتضى طبيعة كل علم قائم على مخزون فكري متولد من الفطرة و له تقرر وجداني في الجبلة و الغريزة فأن مثل النحو و الصرف و المنطق و البلاغة و علم العروض كلها علوم فطرية ابتداء قبل أن تصاغ بقالب صناعي و صيغة قانونية و هذا ما نلاحظه في العصور الأولى قبل الإسلام حيث يتكلمون العربية بلهجة متناسقة تحكمها الفطرة و السليقة بالتكلم على طبق القواعد العربية و لذا عندما سمع الإمام علي عليه‏السلام لحنا في اللغة العربية وجّه خطابا لآبي الأسود الدوئلي قائلا له أنى أجد لحنا في اللغة العربية فقسم الكلمة إلى الثلاثة أقسام الثلاثة فأصبح النحو له الدور الصناعي بعد أن كان أمرا فطريا و هكذا الحال بالنسبة إلى الصرف و ملاحظة كل كلمة لها الوزن الخاص كزنة فعل و فعلل و تفعل و نحوها و كذا بالنسبة للمنطق فأن الإنسان بحسب جبلته منطقي بالطبع إذا لم يختلط عليه التركيب فيما بين المقدمات فسوف يتوصل إلى النتيجة بسهولة و يسر و كذلك بالقياس إلى الفصاحة و البلاغة و ما نشاهده من فصحاء العرب في العهد الجاهلي و ما يتمتعون به من قوة الأداء و قوة البيان كالنابغة الذبياني و نحوه وهكذا أيضا الحال بالنسبة إلى علم العروض كما ذكر عندما توصل إليه الخليل بن احمد الفراهيدي في ضرب الصفارين و انتزاع تلك الأوزان من خلال الوقع الخاص في الضرب، كل هذا و نحوه إذا تابعنا جميع العلوم فلها حركة تاريخية منشؤها المخزون الفكري في عالم الفطرة.
و أما الدور الصناعي فيأتي في رتبة متأخرة و تحكمه قوانين ملائمة بين الفطرة و الصناعة ليخرج إلى عالم الفن و الصناعة ليكون محط الدراسة و البحث المنهجي على جميع المستويات فعليه أن علم الأصول يمكن أن يقع تحت اتجاهين:
1 ـ الاستنباط العام.
2 ـ الاستنباط الخاص.
و أما بيان الاستنباط العام بما أن طبيعة العلم فيه الجانب المعياري الثابت من زاوية و فيه الجانب الحركي من زاوية أخرى فالاستنباط العام يراد به الاستنباط الكبروي الكلي الّذي يمكن أن يكون فيه طريق الاستنتاج و الاستنباط الفكري في جميع أنحائه من غير أن يحدد بإطار موضوعي كالأصول الشرعية و الأصول العقلية و نحوها لأنه لا بد أن يقدم الاستنباط العام ضوابطه كالاستنباط الخاص له ضوابط لتحصيل المفارقة بين الأمرين و إن كان لكل منهما قوانين مشتركة من حيث المبادئ لأجزاء الموضوع و جزئياته و من حيث الأصول الموضوعة كالكلية و الجزئية و الكيفية كالإيجاب و السلب بدون إرجاع الكم إلى الكيف لان ما يبتنى عليه الوجود الكمي مختلف عما يرتكز عليه الوجود الكيفي فلا يمكن إرجاع أحدهما إلى الأخر و إن تمسك به بعض فلاسفة الغرب مثل هيجل و مدرسته فانه على ذلك المسلك ربما تختلط المقاييس في الجهة الاستنتاجية لاختلاف الضابطتين.
و على ضوء هذه الملاحظة الأصولية يحتاج إلى فرز الاستنباط العام الحقيقي في أسسه عن الاستنباط المفهومي و بيان جهة الفرق بين الاستنباط الكبروي العام بما يدخل تحت ضوابط معيارية مسلمة و بين الأصول الجعلية و بين الاستنباط العام بما يقع تحت المداخلة الكلية في أسس البناء للاستنباط المفهومي العام الواقعي.
و أما بيان الاستنباط الحقيقي فهو تارة يرتكز على مسألة الإرجاع و معرفة الانتقال من الفرع إلى الأصل و من الخاص إلى العام و هكذا و يتم ذلك عن طريق المبادى‏ء والاستقراء و الوصول إلى الاستنباط الكبروي و أخرى يرتكز على الاستيحاء و تقرير حالة الوصول إلى النتائج بطرق وجدانية وارتكازية منشاؤها تراكم معلومات منطوية مخزونة و أما بطرق إلهامية داخلة في محض الأمور التجريدية و ثالثة يرتكز الاستنباط الحقيقي على الحركة اللاإرادية كالصعق الكهربائي في إحداث نظرية الاستنساخ مثلا، وهكذا ينتج من ذلك قانون علمي حركي أو ثابت و رابعة يقوم الاستنباط الحقيقي أيضا على المنطق الوضعي و هو المبني على الجانب الحسي المباشر أو على مجرد العلاقات الكائنة بين القضايا لعلاقتي النفي و الإثبات و التداخل و الاخراج و الجزئي و الكلي بغض النظر عن الوصول إلى الواقع الثابت أو عدمه فظهر من مجموع هذا العرض الاستنباط الحقيقي الّذي ينطبق على هذه الموارد و غيرها الّذي تم مظهره بلحاظ الوجود الخارجي.
و أما بيان الاستنباط المفهومي العام[1] حيث تشترك الجهة الاستنباطية تحت مظلة الاستنباط المفهومي المتافيزيقي العام و لكن ذلك محتاج إلى تأسيس قواعد من حيث المبادى‏ء و النتائج فأما من حيث المبادئ. أولا: لابد من تحديد الموضوع هوية أو اعتبارا أو مقولة و يكون البرهان على التحديد من خلال التعريف عليه سواء كان بالمبادئ التصورية أم المبادئ التصديقية.
و بما أن الموضوع اخذ في طبيعته أن يقع تحت غطاء المسائل و بذلك لامعنى لإدخاله في أجزاء العلوم كما انه لا معنى لإدخال التعريف و أسسه تحت أجزاء العلوم، و هكذا الكلام بالنسبة إلى المبادئ التصديقية لايمكن أن تنطوي تحت أجزاء العلوم أيضا إلاّ انه لا يمكن أن يلحظ الموضوع جزءا من العلوم باعتبار أحواله أو من ضمن المحمولات على نحو الجهة الإضافية للموضوعات أو أخذه على نحو النسبة التحيثية.
و بالجملة أن كل علم لابد أن يحدد موضوعه مع معرفة محمولات مسائله العارضة عليه بنحو العروض الذاتي كما انه لايمنع أن يتألف الموضوع العلمي بين جزئين أحدهما: الموضوع الثاني: العرض الذاتي.
و انه بعين ذلك لابد أن يعرض على المحمولات العارضة على تلك الموضوعات عروضا ذاتيا من غير واسطة عروضية، كما أنه مما يرتكز عليه الاستنتاج وجود المبادئ و هي الخارجة عن اصل العلم، و قبل الشروع فيه مثل تصور الموضوع و العوارض الذاتية و الأمور التصديقية الّتي يلحظ فيها تأليف القياس.
أو المراد بالمبادئ التعريف و الموضوع و الغاية الّتي اصطلحنا عليها بعناصر العلوم حيث لها الدخالة و لذا لابد من حصول المفارقة بينها و بين المقدمات فأن المقدمات خارجة عن العلوم بخلاف المبادى‏ء.
ثانيا: أن ما يقوم عليه أساس الاستنباط أن تلحظ ابتداء جميع ما يرتكز عليه وجود القضايا التصديقية من حيث الموضوع و المحمول مع ملاحظة طريقة الحمل بغض النظر عن حصول الواسطة و عدمها و إن كان المختار لدينا الفرق بين طبيعي الحمل و العروض مع مراعاة كيف القضية في ناحية إدخال الموضوع في دائرة الحمل و عدمه كما انه لابد من النظر إلى دور العلاقة و الإضافة الخاصة بين الحمل مع موضوعه فأن تم الترابط في ناحية انطواء الموضوع تحت مظلة الحمل حقيقة من غير ادعاء في الانطواء كان من نوع الشكل المتبع الّذي يلائم الطبع كما يتناسب مع الواقع أما إذا لوحظ في جهة الحمل الأمر الصوري الّذي هو أمر مخالف للطبع و الدخالة و كذا الحال بالنسبة إلى الشكل الثاني أيضا كما أن الملائم للطبع و الدخالة تحت الحمل الحقيقي هو الشكل الأول في المجال المنطقي و هكذا الحال في سلسلة الأشكال الأربعة فأن مثل موضوع الحمل للشكل الثالث بعيد عن الشكل الثاني كما أن المحمول في الشكل الثالث بعيد عن الطبع أيضا و هو من نوع الشكل الرابع و يتبع في ذلك كله باعتبار الشرائط من حيث الكم و الكيف كما هو المدون في الكتب المنطقية الصورية.
و المهم من هذا العرض المختزل الوصول إلى قاعدة عامة كما أنه تضم جميع العلوم في ناحية الاستنباط المفهومي من غير أن يحدد بإطار الاستنباط الخاص و إنما هناك ضابطة عامة ينطوي تحتها جميع العلوم وذلك بمقياس الاستنتاج الحقيقي و أقسامه.
و ربما تورد بعض الأقيسة إلاّ إنها لم تنتهج المنطقية المصطلحة و هذا لا يضر في اصل القياس و المنطق الكلي في حال التغيير في الهيئة التركيبية كما يعبر عنه بالتحليل القياسي لحصول القاعدة القياسية لدى صاحب الاستنتاج العلمي فمثلا إن كانت القضية التصديقية مؤلفة من المقدمات و النتيجة على نحو أن تكون المقدمات مشاركة في عملية الاستنتاج في كلتا المقدمتين فيسمى مثل هذا النوع بالقياس الاستثنائي بخلاف ما لو كان مشاركة لمقدمتين مع النتيجة المطلوبة في بعض المقدمات دون تمامها كان من نوع القياس الاقتراني و تكون عناصر الاستنباط قائمة على ما يلي:
أ ـ المقدمة الأولى (الصغرى): و هى الّتي يحكم عليها في النتيجة.
ب ـ المقدمة الثانية (الكبرى): و هى الّتي يحكم بواسطة الكبرى على وجود النتيجة و أما عملية الاستنباط و هي لحاظ الجمع بين الصغرى و الكبرى و حصول التوفيق و الانضمام فيما بين الصغرى و الكبرى على نحو انضمام الكبرى إلى الصغرى و لذا قلنا فيما سبق أن موضوع الاستنباط هو عبارة عن وجود الضم بنحو المصدر دون اسم المصدر.

2 Commentaires

Plus récente Plus ancienne